الصحوة الدينية شيء والإرهاب باسم الدين شيء آخر

سواء كان الارهابيون الذين قاموا بتفجير «بالي»، والاعتداء على شاحنة النفط الفرنسية، من خريجي «القاعدة» ام مستقلين عنها، فان ثمة حقيقة راهنة وهي ان عمليات الارهاب مستمرة في العالم، وان احتلال افغانستان واخراج طالبان واسامة بن لادن وقاعدته منها، لم يوقف العمليات الارهابية ولم يقض على الارهاب والارهابيين. فهل ترى احتلال العراق والاطاحة بصدام حسين من شأنه تحقيق ذلك؟
في مؤتمر علمي عقد مؤخرا في فرنسا دار النقاش حول السؤال التالي: لماذا اقلعت الطائرات التي صدمت برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك، من بوسطن وليس من كابول او طهران او من احدى عواصم «الدول الشريرة» كما يسميها الرئيس بوش، التي تؤوي او تساعد الارهابيين؟ ومن الاجوبة التي سمعها المؤتمرون، ان الاديان لم تعد مجسمة في ثقافة او امم او دول معينة، بل اصبحت تتجاوز الحدود، ساعية الى استعادة دعوتها التبشيرية. وهذا ما يكذب نظرية صراع الحضارات التي طلع بها هنتنغتون حين حصر الاديان داخل حدود حضارية جغرافية. فالعالم الاسلامي، كما لاحظ بعض المحاضرين، ليس واحدا او موحدا عقائديا، بل هو منقسم الى عدة تيارات مختلفة في نظرتها الى الدين، والاصوليون المتطرفون الاسلاميون قد قتلوا من المسلمين اكثر مما قتلوا من المسيحيين الغربيين او من اليهود. ولكن الدين اصبح قاطرة لكل القهر الذي تعانيه الشعوب العربية والاسلامية، وكل الاماني التي تحلم بها الشعوب الاسلامية.
اما الظاهرة الجديدة الاخرى، في هذا الصدد، فهي ان الاقليات او الجماعات القلقة على مصيرها او المتعرضة للقهر، لم تعد تتقوقع على نفسها في «غيتوات»، كما كانت تفعل في الماضي، بل انشأت «شبكات» لها في العالم، وباتت تمارس دعوتها عن طريق النضال والعنف احيانا، مستفيدة من الوسائل التكنولوجية الحديثة. وليست شبكة «القاعدة» بالوحيدة التي تنطبق عليها المواصفات الجديدة، بل هناك تنظيمات ارهابية اخرى وغير اسلامية، في اوروبا واميركا الجنوبية وحتى في داخل الولايات المتحدة تتبع هذه الطرق. ومما ساعد على نشوء واتساع هذه الشبكات، سهولة الهجرة من بلد الى بلد آخر والاقامة فيه، وكثافة السكان في المدن الكبرى، وسائل الاعلام والاتصال والتواصل. وهكذا فإن الهوية لم تعد جغرافية، كما بالامس، وبات الدين يحتل محلا اكبر في تحديد هوية الانسان.
وتساءل احد المحاضرين: ما الذي يستطيعه الرئيس بوش مع شبان مسلمين اصوليين متطرفين، لا يقيمون في بلادهم الاصلية، بل في الدول الغربية، ولا يعرفون الكثير عن الاسلام، بل نجح الدعاة الاصوليون المتطرفون في اقناعهم «باسلام محارب» صيغت فلسفته في باكستان او افغانستان ويتميز بديناميكية خاصة به ومختلفة عن ديناميكية الدعوة الاسلامية في البلاد العربية، بل حتى عن الاصولية الدينية العربية.
وليس ادل على تحريف الاديان من اجل استخدامها في هذه الحرب التي شنتها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر، من هذا التحالف بين اليمين المسيحي البروتستانتي الاميركي واسرائيل. فهذا اليمين الاميركي انما يؤيد اسرائيل دينياً، اذ يعتبر قيام اسرائيل اشارة على ما جاء في الكتب المقدسة عن عودة المسيح واعتناق اليهود لرسالته، اي ان بعض قادته يؤيدون قيام اسرائيل واحتلالها الضفة، لا من قبيل العداء للفلسطينيين والعرب، بل لان قيامها واستيلاءها على كل الاراضي الفلسطينية يمهد لزوالها، اذ يبشر بعودة السيد المسيح و«تنصر» اليهود. ولم يخف ذلك عن كاتب اسرائيلي (غورنبرغ) الذي كتب في «الواشنطن بوست»، مؤخرا، يحذر من ارتماء الاسرائيليين في حضن اليمين المسيحي ـ الاميركي الذي انما يؤيدهم لينهيهم. وطالب في مقاله الحكومة الاسرائيلية بالدخول في مفاوضات سلام مع الفلسطينيين.
ان الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على الارهاب ما زالت في بدايتها. ولكنها، لسوء حظ الجميع، اشبه بهجمة خبط عشواء، يتغلب فيها الانفعال والغضب والحسابات السياسية الصغيرة، على الطريق او الاسلوب الصحيح والناجح للتغلب على الارهاب والقضاء على اسبابه، لا على القائمين به. فالجماعات او التنظيمات السياسية ـ الدينية الارهابية في العالمين العربي والاسلامي (مع استثناء المقاومين في فلسطين)، انما يعملون على ضرب واسقاط الانظمة الحاكمة في كل البلدان العربية والاسلامية، بكل الوسائل. وتفجير «بالي»، لا يستهدف الولايات المتحدة ولا اسرائيل، بل الحكم في اندونيسيا. واذا كانت الولايات المتحدة حريصة على كسب العالمين العربي والاسلامي الى جانبها في حربها على الارهاب، فلا بد لها من مساعدة الانظمة الحاكمة على الصمود في وجه الاصوليين الذين يعملون على ضربها ومحاولة اسقاطها. (وحثها على اصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية ضرورية)، وليس احراجها كما تفعل في هذه الحرب التي تعدها ضد العراق، مثلا.
بعد سقوط الشيوعية كان من الطبيعي ان تتعزز كل الاديان في العالم. وبعد النكبات والنكسات التي اصيب بها العرب والمسلمون، ولا سيما في فلسطين، كان انبعاث الدعوات الدينية السياسية الاسلامية، ايضا، امرا طبيعيا في الدول العربية والاسلامية، لا سيما ان العقائد السياسية الاخرى فشلت في تحقيق اماني شعوبها.. ولكن «الصحوة الدينية» لا تعني ما قام به بن لادن وجماعات «القاعدة»، من عمليات ارهابية، وبهذا الاسلوب الارهابي الدامي الذي اتبع في نيويورك وبالي. واما بالنسبة للمتطرفين والمتعصبين، من مسيحيين ويهود ومسلمين الذين تدفع اعمالهم العالم الى حرب عالمية ثالثة، او الى سلسلة من الحروب الصغيرة في الشرق الاوسط والعالمين العربي والاسلامي، فليس أمام واشنطن والعواصم العربية والاسلامية سوى التعاون لانقاذ العالم من تمادي عملياتهم الارهابية بوسائل اخرى غير القمع بالقوة او بشن الحروب.
هناك، اليوم في الغرب، من ينادي بأن القضاء على الارهاب يتطلب تغيير الانظمة الحاكمة في الدول العربية وإحلال انظمة ديمقراطية محلها. ربما ولكن ماذا يبقى من الديموقراطية حين يكون تغيير نظام الحكم في بلد ما يتم على يد دولة اخرى وبالقوة؟
يبقى ان الحقيقة الصارخة ـ التي ترفض آذان واشنطن سماعها هي في ان حل القضية الفلسطينية واحلال نوع من السلام في الشرق الاوسط، هما اهم مفاتيح النجاح في مقاومة الارهاب والقضاء عليه.